بقلم: فاطمة عبد الرؤوف
تبدو حاجة أمتنا ماسة لوجود شخصيات قيادية حقيقية تمثل إضافة ودعماً، لا شخصيات «ديمجاوجية» تثير الفتن وتزيد الأمة ضعفاً إلى ضعفها.
الشخصيات القيادية الحقيقية تقوم بدور يتجاوز دور الطليعة، فهي تتخلل الأمة كما تتخلل الخميرة مواد الخبز، فيتضاعف حجمه ويحمل مذاقه المميز، وكما الخميرة النشطة التي لا بد أن يكون لها صفات، فإن الشخصية القيادية لا بد أن تُربى على مجموعة من الأسس التي تمثل في مجموعها وفي التوازن بينها سر النجاح المنشود.
في هذا المقال نستعرض 5 من أهم وأبرز هذه الأسس كالتالي:
1- الرجاء وعدم اليأس:
الأساس الأول للشخصية القيادية هو أنها ترجو رحمة الله في أحلك الظروف، ولا تيأس من روح الله أبداً مهما أحاطتها المحن، وهو أساس يعكس قوة إيمانها.
والحاجة ماسة لهذه الصفة في ظل ظروف محبطة، وخطاب يدعو لليأس من الأصدقاء قبل الأعداء، ولا يعني الرجاء عدم القدرة على رؤية الأمور كما هي، أو تزييف الواقع بحيث يخضع لحسابات العاطفة، وإنما يعني قراءته بصورة واقعية دقيقة لا تلغي الرؤية الإستراتيجية المستقبلية المستلهمة من دروس التاريخ.
على سبيل المثال، مر المسلمون بأزمة شديدة يوم «الخندق»، وبلغ بهم الرعب والترقب مبلغه مع اجتماع قوى الكفر في مواجهة المسلمين، حتى وصلت القلوب الحناجر، لكن القيادة النبوية أرادت أن تعلمهم درس الرجاء في قلب المحنة، يروي البراء بن عازب فيقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق وعرض لنا فيه صخرة لم تأخذ فيها المعاول، فشكوناها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول ثم قال: «بسم الله»، فضرب ضربة، فكسر ثلث الحجر وقال: «الله أكبر! أُعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة»، ثم ضربها ثانية وقال: «الله أكبر! أُعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض» (رواه أحمد).
كان الصحابة في قلب المحنة وفي قمة الترقب والقلق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يمنحهم درساً عملياً في الرجاء يفصلهم شعورياً عن الأزمة، وإن لم يفصلهم عن الجد في العمل لمواجهة الأزمة، فهو يضرب الصخرة، وفي الوقت ذاته يبشر بمستقبل الفتوحات الذي لن توقفه قوى الكفر آنذاك.
2- الصبر الجميل:
الأساس الثاني الذي يصنع الشخصية القيادية الصبر الجميل؛ الصبر بمعناه الإيجابي وبما يحتمله من قوة الصمود النفسي وليس بمعناه التقليدي الذي عشناه لقرون بمعنى الرضا والاستسلام للأمر الواقع وعدم محاولة تغييره، الصبر الجميل فعل إيجابي، ويعني عدم تعجل النتائج وعدم الإحباط من تأخر الثمار، بل عدم الإحباط من فشل التجربة والقدرة الفائقة على البدء من جديد وفق آليات ربما تشرحها بقية الأسس.
فالشخصية القيادية تعمل، أما النتائج فيقدرها الله، ففي الحديث: «عُرِضتْ عليّ الأممِ، فرأيتُ النبيَّ ومعه الرُّهيْط، والنبيَّ ومعه الرجلُ والرجلان، والنبيَّ وليس معه أحدٌ»، وهذا إن دل فهو يدل على قوة الصبر، فقوة الدعوة لا تقل حتى وإن لم يؤمن بها أحد، وعماد الدين زنكي لو لم يكن يمتلك قوة الصبر ما بدأ مشروعه الذي واصله نور الدين محمود فصلاح الدين الأيوبي.
الصبر الذي نحتاجه لبناء شخصية قيادية فيه جانب مهم مرتبط بالصبر الفردي، ذلك الصبر الذي يواجه به الإنسان مشكلاته وضغوطه وابتلاءاته، صبر يوسف ويعقوب وأيوب، صبر النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن تلقى أذى قريش واتهاماتهم الباطلة وحصار الشعب وفقده أولاده والشائعات التي طالت أهل بيته ومرضه والكثير الكثير، فلا يكاد يكون هناك موقف فردي أو عام إلا وكان الصبر الإيجابي هو الحل؛ لذلك كانت الوصية القرآنية: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) (المعارج: 5)، وكان دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) (البقرة: 250).
3- التطوير المستدام:
القيادة الناجحة أبعد ما تكون عن الجمود، ولا بد أن تكون لديها رؤية تطويرية مستدامة، التطوير لا يمس بالتأكيد العقيدة أو الأفكار المركزية المجمع عليها، وإنما قد يشمل التفكير خارج الصندوق في الأفكار الفرعية التي يكثر حولها الخلاف، ويشمل بشكل أساسي الأدوات والتقنيات والوسائل التي بها تتحقق الأهداف.
لو ضربنا مثالاً بالنبي يوسف عليه السلام، نجده تارة يستخدم قدرته على تفسير الأحلام في الدعوة لله داخل دائرة ضيقة أحدهم محكوم عليه بالقتل والصلب، ونجده تارة أخرى يستخدم مهاراته في الإدارة ومواجهة الكوارث في الدعوة غير المباشرة وعلى أعلى مستوى من مستويات الدولة.
ذلك التطوير الذي جعل النبي صلى عليه وسلم يستخدم آلية جديدة في مجال الحرب ويقبل بفكرة الخندق، وجعلت عمر بن الخطاب ينشئ الدواوين ويعيد هيكلة الدولة، وجعلت أبا بكر الصديق يجمع المصحف، وعثمان بن عفان ينسخ منه عدة نسخ.
التطوير مرتبط بالنهضة بشكل مباشر، نهضت أوروبا عندما سعت للبحث عن علاج للطاعون، وتأخرنا عندما تمسكنا بخرافات تقليدية في مواجهته، ونسينا أن ديننا يلهمنا للسعي خلف الأسباب وتطويرها.
تبدو أهمية التطوير بصورة فائقة في عصر الرقمنة حيث التطورات السريعة المتلاحقة التي بحاجة للتعاطي معها بإيجابية (مع الالتزام بالضوابط التي ذكرناها في صدر المقال) وإلا ازدادت الفجوة اتساعاً.
4- المبادرة:
وهي سمة من سمات القيادة الناجحة مرتبطة بسمة التطوير، وأردت ذكرها في نقطة منفصلة لأهميتها البالغة، فلا يتصور لقائد ناجح أن ينتظر حتى تداهمه الأحداث قبل أن يبادر هو بالتخطيط الإستراتيجي، فدائماً هو يمتلك زمام المبادرة حتى لو لم يأخذ الخطوة الأولى يكون مستعداً لها، فعمر بن الخطاب عندما وجد 70 من حفظة القرآن الكريم قد استشهدوا في حروب الردة، بادر باقتراح جمع القرآن، وحث أبا بكر على أهمية هذا الجمع على الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ورغم أن الله وعد بحفظه، لكن عمر يأخذ بالأسباب ويبادر بها، أو كما فعل أبو بكر بالمبادرة بحروب الردة على غير نموذج سابق.
5- المراجعة:
لا يمكن الحديث عن سمات الشخصية القيادية دون الحديث عن المراجعات، فمهما امتلكت الشخصية القيادية من مهارات التفكير والتنظيم والجدية والصمود في العمل، فإن الخطأ البشري وارد خاصة مع المبادرات الجريئة، وهنا تبدو أهمية أن تمتلك الشخصية القيادية مرونة وشجاعة وذكاء المراجعات، وهذا ما قام به خالد بن الوليد في غزوة «مؤتة»، فكان الانسحاب من هذه المعركة يمثل شجاعة المراجعة للموقف، وهو الأمر الذي قام به عمر بن الخطاب عندما تراجع عن تحديد حد أقصى للمهور، وعندما تراجع عن إعطاء الطفل الفطيم حقه في بيت المال وجعل ذلك حقاً له بمجرد مولده، وكثير من الفقهاء قاموا بمراجعات لفتاويهم دون أن يقلل ذلك منهم.
العكس هو الصحيح تماماً، فالاستمرار في الخطأ للحفاظ على الوجاهة الاجتماعية، أو المكتسبات التي بذل فيها الوقت والجهد هو تعزيز للخطأ وتحويله لخطأ مركب، والحاجة للمراجعات لا تمس فقط الشخصية القيادية على المستوى الفردي، بل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بصناعة شخصيات مؤثرة قادرة على تفعيل مهارة المراجعات على مستوى الجماعات والمنظمات.