بقلم: د. فداء منصور الجوهري
يمثل الاقتصاد السوري بعد أكثر من عقد من النزاع المدمر منذ عام 2011م، مثالاً حياً للآثار الكارثية للحروب على التنمية البشرية والاقتصادية، فقد تحولت سورية من بلد يسعى إلى الاندماج الاقتصادي الإقليمي، إلى دولة غارقة في أزمة إنسانية واقتصادية متعددة الأبعاد، تواجه واقعاً مريراً من الانهيار والتحديات الهائلة التي تعصف بأي آمال في التعافي السريع، ولم تكن الحرب مجرد صراع عسكري؛ بل كانت ضربة قاصمة للبنية التحتية، ورأس المال البشري، والقدرة الإنتاجية، مخلفة بصمات عميقة على مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
تُظهر الأرقام والإحصاءات حجم التدهور الاقتصادي الذي تشهده سورية، فوفقاً لتقديرات البنك الدولي، انكمش الناتج المحلي الإجمالي في سورية بأكثر من 58% بين عامي 2010 و2020م، وخلال هذه الفترة شهدت البلاد تدهوراً كارثياً في قيمة العملة المحلية، فبعد أن كان سعر صرف الدولار لا يتجاوز 50 ليرة سورية قبل عام 2011م، وصل إلى مستويات غير مسبوقة تتجاوز 15 ألف ليرة سورية في السوق الموازية في أواخر عام 2024م.
هذا التدهور الحاد في قيمة العملة كان له انعكاسات مباشرة على القدرة الشرائية للمواطنين، حيث ارتفعت معدلات التضخم وتجاوزت 200% في بعض الفترات، خاصة في أسعار السلع الأساسية والمواد الغذائية والوقود؛ ما دفع نحو 90% من السكان إلى ما دون خط الفقر.
البنك الدولي: الناتج المحلي الإجمالي انكمش 58% بين عامي 2010 و2020م وتدهور كارثي في قيمة العملة
لم يتوقف التدهور عند هذا الحد، بل استمر ليشمل جميع المؤشرات الاقتصادية الكلية، حيث تأثرت القطاعات الرئيسة في الاقتصاد السوري بشكل بالغ، على سبيل المثال انخفض إنتاج النفط الذي كان مصدراً رئيساً للدخل قبل عام 2011م من 380 ألف برميل يومياً، إلى حوالي 30 ألف برميل في عام 2020م، بسبب سيطرة جماعات مسلحة على حقول النفط بخلاف العقوبات الاقتصادية المشددة.
كما تراجعت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي من 20% إلى نحو 8% فقط، وأصبحت سورية (التي كانت مكتفية ذاتياً في العديد من المحاصيل) تستورد الغذاء لتلبية احتياجاتها الأساسية، بسبب تعرض القطاع الزراعي لأضرار جسيمة كنقص المياه وتدهور البنية التحتية للري، وتدمير الأراضي الزراعية، وزيادة تكاليف الإنتاج بنسبة 300%.
وفيما يتعلق بالقطاع الصناعي، فقد تعرضت آلاف المصانع والمنشآت للتدمير الجزئي أو الكلي، أو توقفت عن العمل بسبب نقص المواد الخام، والطاقة، وصعوبة التصدير والاستيراد، وتضررت نحو 70% من المنشآت الصناعية في بعض المناطق بشكل كبير أو خرجت عن الخدمة.
تحديات تواجه التعافي
تتعدد التحديات التي تقف حائلاً أمام أي محاولة للتعافي الاقتصادي في سورية، لتشكل جداراً من العقبات يصعب تخطيه دون تغييرات جذرية، ومنها:
– توحيد الاقتصاد السوري: يواجه الاقتصاد السوري تحدياً بالغ التعقيد يتمثل في توحيد 4 مناطق اقتصادية مستقلة نشأت خلال سنوات الأزمة، لكل منطقة نظامها المالي وسياساتها التجارية وعملتها الخاصة؛ حيث اعتمدت المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية على الليرة السورية، بينما استخدمت المناطق الشمالية الخاضعة للنفوذ التركي الليرة التركية، في غضون ذلك طبقت الإدارة الذاتية الكردية وحكومة الإنقاذ السورية أنظمة اقتصادية منفصلة، وقد أدى هذا التشتت إلى صعوبات عديدة في المعاملات التجارية والتحويلات المالية.
– العقوبات الاقتصادية: وهي العقوبات التي فرضت على النظام السوري من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، هذه العقوبات تستهدف قطاعات حيوية كالنفط والغاز والخدمات المصرفية والاستثمار الأجنبي.
لقد عزلت العقوبات القطاع المصرفي والمالي السوري فعلياً عن النظام المالي العالمي، كما ساهمت في انهيار قطاع النفط، حيث أدى حظر تصدير النفط السوري إلى انخفاض الإيرادات بنسبة 90% مقارنة بمستويات ما قبل عام 2011م، كما تحد العقوبات من قدرة البلاد على الوصول إلى الأسواق العالمية، وتلقي المساعدات الدولية، وجهود إعادة الإعمار، وتجعل من الصعب جداً على أي كيان خارجي التعامل مع الاقتصاد السوري دون التعرض لعقوبات ثانوية.
تحديات تواجه التعافي:
– غياب الاستقرار الأمني والسياسي:
يمثل هذا الغياب عائقاً رئيساً أمام جذب الاستثمارات الأجنبية وإعادة الإعمار، حيث تتعرض بعض المناطق لتوترات أمنية مستمرة؛ ما يجعل أي خطط استثمارية طويلة الأجل محفوفة بالأخطار، كما أن تعدد مناطق السيطرة في سورية، مع وجود قوى متعددة على الأرض، يخلق بيئة غير موحدة وغير محفزة للنشاط الاقتصادي.
– تدمير البنية التحتية: وهو تحدٍّ ضخم يتطلب استثمارات هائلة، فالطرق والجسور وشبكات الكهرباء، والمياه، والصرف الصحي، والمستشفيات، والمدارس، جميعها تحتاج إلى إعادة بناء وإصلاح جذري، وتقدر الأمم المتحدة أن تكلفة إعادة إعمار سورية تتجاوز 422 مليار دولار أمريكي، وهو مبلغ ضخم لا يمكن لسورية (في وضعها الحالي) توفيره بمفردها.
– هجرة الكفاءات والعقول: التي تركت فراغاً كبيراً في جميع القطاعات الحيوية، من الأطباء والمهندسين إلى المعلمين والعمال المهرة، هذه الهجرة الجماعية التي تقدر بالملايين حرمت سورية من رأسمالها البشري الضروري لعملية التعافي.
– تفشي الفساد: تزايد الفساد خلال فترة النزاع على نطاق واسع في جميع المستويات، وانخفض ترتيب سورية في مؤشر ضبط الفساد ضمن مؤشرات الحوكمة العالمية من المرتبة (14) إلى المرتبة الثانية بحلول عام 2016م؛ ما يعيق أي جهود للإصلاح الاقتصادي، ويثبط عزيمة المستثمرين، ويقوض الثقة في المؤسسات.
– الاعتماد المتزايد على المساعدات الإنسانية: وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، يعتمد ما لا يقل عن 70% من السوريين على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة؛ ما يشير إلى عمق الأزمة الاقتصادية والإنسانية، نتيجة الانهيار شبه الكامل للاقتصاد الرسمي وقدرة الدولة على تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها.
آمال التعافي ومسارات محتملة
على الرغم من الصورة القاتمة والوضع الاقتصادي المتردي، والفترة القصيرة على تغيير النظام، فإن هناك بصيصاً من الأمل في إمكانية تحقيق التعافي الاقتصادي في سورية، هذه الآمال ترتبط بموقف المجتمع العربي والدولي بجانب سورية والحكومة الانتقالية، كما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإيجاد حل سياسي شامل ومستدام للنزاع، يمهد الطريق لرفع العقوبات الدولية، وعودة اللاجئين والنازحين بأمان، وتوفير بيئة جاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي، دون هذا الحل السياسي ستظل أي جهود للتعافي جزئية وغير فعالة.
آمال التعافي:
وفي خطوة إيجابية تدعم هذه الآمال، سددت السعودية وقطر المتأخرات المستحقة على سورية للمؤسسة الدولية للتنمية (IDA) التابعة للبنك الدولي، والبالغة حوالي 15.5 مليون دولار أمريكي في مايو 2025م؛ ما قد يمهد الطريق لتعاون أوسع مع المؤسسات المالية الدولية(7)، ومن ثم يمكن أن تبدأ عملية التعافي من خلال عدة مسارات محتملة، تتطلب رؤية إستراتيجية وتنسيقاً دولياً:
1- إعادة تفعيل القطاعات الأساسية: يجب التركيز على دعم القطاع الزراعي من خلال توفير البذور، والأسمدة، والمعدات، وإعادة تأهيل شبكات الري، لضمان الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، والعمل على العودة السريعة لإمدادات النفط والطاقة، كما يجب العمل على إعادة تأهيل المصانع المتوقفة بشكل تدريجي، وتقديم حوافز للقطاع الصناعي.
2- جذب الاستثمارات الخارجية والداخلية: يتطلب ذلك توفير بيئة قانونية وتشريعية مستقرة وشفافة، وحماية للملكية الخاصة، وضمانات حقيقية للمستثمرين، يمكن البدء بالاستثمارات في المشاريع ذات الأثر الاجتماعي المباشر.
3- إعادة بناء البنية التحتية: هذه المهمة الضخمة تتطلب جهوداً دولية منسقة وتخصيص موارد ضخمة من خلال برامج إعادة إعمار واسعة النطاق، مع التركيز على المناطق الأكثر تضرراً والبنى التحتية الحيوية كالكهرباء والمياه.
مسار التعافي الاقتصادي طويل ومعقد ومحفوف بالصعوبات ويحتاج إرادة سياسية حقيقية ودعماً دولياً واسعاً
4- إصلاحات اقتصادية وهيكلية شاملة: يجب مكافحة الفساد بشكل فعال، وتبسيط الإجراءات البيروقراطية، وإصلاح النظام المصرفي والمالي، وتفعيل دور القطاع الخاص كقاطرة للنمو الاقتصادي، كما يجب وضع خطط لتدريب وتأهيل القوى العاملة التي تضررت بشدة خلال النزاع.
5- تسهيل عودة اللاجئين والنازحين: تعد عودة الكفاءات ورأس المال البشري أمراً حيوياً لإعادة بناء الاقتصاد، يتطلب ذلك توفير ظروف آمنة وكريمة للعودة، وتوفير فرص عمل، وإعادة تأهيل الخدمات الأساسية في مناطق العودة.
إن مسار التعافي الاقتصادي في سورية طويل ومعقد، ومحفوف بالعديد من الصعوبات، ويحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية ودعم دولي واسع، حيث تتطلب التحديات القائمة استجابة فورية ومتكاملة من جميع الأطراف، لإنقاذ ما تبقى من الاقتصاد السوري، وإعادة الأمل للشعب السوري في مستقبل أفضل وأكثر استقراراً.