بقلم: محمد هاشم
اسمي سعيد، مهنتي طباخ، قد لا يبدو عليَّ هذا لأني مهندم اللباس وأتكلم كجامعي، وفي الحقيقة أني كنت يومًا ما جامعيًا بل وفي إحدى كليات القمة كما يسمونها، لم أدرك من نفسي تميزًا في أي شيء مما أدرس، لم أكن أفهم شيئًا فضلًا عن أن أحبه، لم يسألني أحد ماذا أتمنى أن أكون أو يعطيني خيارات أجربها لأعرف من بينها إلى أي شيء أميل فأختاره، أدركت ذلك متأخرًا بعض الشيء وذلك حين سافرت في إجازة الصيف بعد عامي الدراسي الأول في الجامعة، كانت رحلة عجيبة غيرت حياتي، كنا جميعًا طلبة، اقترح أحدنا في بدايتها ألا نتحدث في أي أمر بخصوص الدراسة وليكن أحدنا نفسه من غير إضافات، ولاقى الأمر قبول الجميع تقريبًا، نظرت إلى نفسي فلم أجد شيئًا يميزني إلا تلك العلامات التي تخرج آخر كل عام دراسي بجانب اسمي، شعرت بذلك أني محاصر فسألت الباقين:
–ولماذا ننسلخ عن ذواتنا لنكون شيئًا آخر؟!
فرد أحدهم:
– بل الانسلاخ أن ينسى أحدنا نفسه بجوانبها الكثيرة ويتبنى جانبًا واحدًا يراه وحده كل شيء، ثم إن ضاع أو ضعُف فلا يجد من نفسه شيئًا.
سألته متحديًا:
–وما الجوانب الأخرى عندك أنت؟!
قال على الفور:
– علاقاتي، عندي أسرة أحبها وتحبني، وأصدقاء أصدُقهم ويصدُقوني، ومعارف أحترمهم ويحترموني، وقبل أن تقول لنفسك: إن هذا أمر سهل فكّر قليلًا.
قلت بعد إبداء بعض التعجب المتكلف:
– ليكن إذًا.
مضى الجميع إلى الاستمتاع بالرحلة ولا يعلم هذا الشاب ماذا صنعت كلماته بي، كأني أول مرة أسمع شيئًا يشعرني بوجودي ابتداءً، كيف مضت الأعوام ولم أفكر في هذا ولا مرة!
تجمعنا بالليل ولعبنا لعبة الصراحة، لعل كلكم يعرفها، زجاجة نديرها ويسأل من أشارت إليه الذي أمامه، كانت فتاة، سألها أحدهم:
– أين ترين نفسك بعد خمس سنوات؟
ضحك الجميع وضحكت معهم على هذا السؤال الذي يبدو كسؤال متقدمي الوظائف، ثم أجابت بجدية:
– في المنزل.. ومعي طفل ننتظر سويًا سعيد الحظ أن يأتي من العمل ليجد الغداء ساخنًا.
قال الشاب السائل:
– لا لا، أتكلم بجد فعلًا.
قالت:
– هو كذلك فعلًا.
لم يحب أحد أن يدخل في نقاش عن أهمية التعليم الجامعي والعمل وتحقيق الذات كي لا يكدر صفو الرحلة، لا سيما وقد اتفقنا قبلها على عدم الحديث في تلك الأمور، وفي تلك اللحظة -تحديدًا- قررت أن أكون نفسي فعلًا، قطعت الرحلة ومضيت شهرين ونصف شهر أسعى للتعرف على كل عمل أستطيعه، وحصرت في تلك المدة كل الأعمال التي في المتناول تقريبًا، ثم شرعت في تجربة أكثرها مناسبة لميولي، وذلك في مدة عام، ووقع الخيار أخيرًا على الطبخ، وجدت من نفسي حبًا لتلك المهنة وتفانيًا فيها، حتى إنني بعد قرابة عامين فقط استطعت ابتكار بعض المأكولات التي لا يعرف سر طهيها أحد غيري، وما زلت في تقدم كبير وأحلم بالمزيد والمزيد، ولست أرى بعد كل ما حققت من تقدم في المهنة أنني مجرد طباخ فقط، أنا الآن نفسي بكل جوانبها، ومن الجميل أني سعيد الحظ الذي تحدثت عنه تلك الفتاة في الرحلة التي حكيت لكم عنها، وأنعم معها وأسرتي الصغيرة بحياة أرضاها مع أني لم أفرط في دراستي الجامعة لكنني أدركت أن توظيف طاقاتنا البشرية نقدم فيه أولاً ما يجب علينا فعله على ما نحب أو يحبه لنا الآخرون.