بقلم: مؤيد الشرعة
يعد البحث العلمي سبيلا من السبل التي يسلكها الإنسان لتحقيق التقدم والتطور واستكشاف مناحي الحياة، وتقديم مخترعات وبحوث جديدة قد تخدم الإنسان وتسهل حياته، وتزيد رصيده العلمي، وتساهم في الكشف عن الأساليب والطرق الصحيحة في التعامل مع بعض الأمور، لذلك نلاحظ مع التطور العلمي والتقدم الغزير للتكنولوجيا والمعرفة في كافة الحقول شدة الاهتمام بالبحث العلمي، واجتراح مناهج حديثة ومطورة لكل حقل علمي لا بد للباحث من الأخذ بها، والتمكن منها حتى يكون جديرا ومؤهلا للبحث العلمي.
التطور العلمي في العصر الحديث
وجدير بالذكر أن نشير إلى أنّ العصر الحديث تميز بظهور نظم دراسية خاصة تميزه عن النظم التعليمية المتبعة في العصور السابقة، فقد حُددت سنوات الدراسة لكافة المراحل، وانفصلت الدراسة الجامعية عن الدراسة المدرسية، وأصبح لكل منهما خصائص تميزه، فقد جُعلت الدراسة المدرسية خاصة بالتلقين ونقل المعارف الأساسية للطلاب في كافة المراحل، وجُعلت الدراسة الجامعية مقسمةً إلى ثلاث مراحل: تمثلت الأولى بأنها مرحلة تأسيسية للتخصص الذي يدخله الطالب، وفي هذه المرحلة يكون التلقين هو سيد الموقف، أما في المرحلتين التاليتين فيبدأ الطالب بولوج مرحلة البحث العلمي المتخصص، بعد أن يكون قد أخذ فكرةً وافيةً عن تخصصه ومناهجه العلمية المتخصصة، فيبدأ الطالب بمحاولات بحثية، تتمثل بكتابة تقارير علمية كي يتمرن على كتابة رسالته الجامعية، التي تكون إضافةً علمية جديدة في البحث والدراسة، ولا بد أن تكون رسالته أو أطروحته الجامعية محكمةً وموثقةً، وتستند إلى مصادر وإحصاءات علمية، وهي بذلك تتطلب من الطالب جهدًا علميا كبيرًا، وتدريبا مستمرًا على الكتابة العلمية حتى يستطيع الخروج بنتاج علمي يشكل إضافةً حقيقة للعلم.
فتنة البيع للمنجز العلمي وأثره على الأمة والمجتمع
كثير من طلبة العلم في عصرنا الحديث، ولا سيما في الأمة العربية يتجهون لمراكز وأشخاص يبيعون رسائل وأطاريح علمية بغية الحصول على الشهادة العلمية، ومع أنّ كثيرًا من هذه الدراسات تقبل، وتُمَرُّ إلا أنّ الخطر الكامن وراءها يتمثل في أنّ هذه الدراسات قد أهلت الطالب للحصول على الشهادة العلمية، وبالتالي فإنه مستفيدٌ مما تقدمه هذه الدرجة في حقل التنافس الوظيفي، وقد يتأهل بسببها لشغل منصبٍ ما، فيكون بذلك قد اغتصب حق شخص آخر كان أحق منه بهذا المنصب، فيكون بذلك قد تجاوز على حقوق العباد، وأكل مالا وتمتع بمنافع ليست من حقه.
ويزداد الأمر سوءًا إن كان هذا الطالب الذي يتخرج بمثل هذه الطرق الملتوية قد عُيِّن بإحدى الجامعات أو المؤسسات العلمية، إذ إنه من المحتمل ألا يكون متمكنا من تخصصه، فينقل علما خاطئًا للطلاب، وقد يتساهل معهم في الغش والتزوير والخداع، فيحدث بذلك ثغراتٍ كبيرة في الجانب المعرفي لدى الطلاب، الذين سيجدون أنفسهم في سوق العمل بلا كفايةٍ وافية بتخصصاتهم، وبالتالي تجد الأمة نفسها فقيرة بأصحاب المؤهلات العلمية ذوي الكفاءة، وتعاني من أخطاء أبنائها وفقرهم المعرفي، فتحدث الأخطاء الطبية، والانهيارات الهندسية، وتتدمر المنظومة التعليمية، ويصبح حال الأمة كحال من بُث فيه السم، فيتدمر جسده من الداخل حتى ينهار ويموت.
واجب طالب العلم تجاه فتنة بيع المعرفة
وفي خضم كثافة حركة البيع والعرض على البحوث العلمية، والواجبات وحل الاختبارات، يظهر في هذا الصدد حس المسؤولية، ومدى الوعي لدى الطالب المتصدي لميدان العلم، فإذا أراد الطالب الاستمرار في تعلمه ودراسته، لا بد له أن يدرك أن العلم ليس وشاحًا يتزين به، بل هو دربٌ صعب فيه نفع للناس وللأمة، وعلى سالكه أن يكون متيقنًا أنه بحمله للشهادة العليا سيكون مسؤولا عنها، لذلك فإنه يجب عليه أن يمارس البحث العلمي، وأن يصبر على صعوباته ومشاقه، وألاّ يلتفت لمغريات فتنة بيع المعرفة، فإذا هو انحاز للدعة والراحة في باب العلم سيكون بذلك عدوا لنفسه ولأمته، فهو بذلك سينال حقا ليس له، ولن يكون قادرا في المستقبل على التصدي للإنتاج العلمي، وإن تصدى له سيقع بمآزق كثيرة قد تصل إلى تحريف العلم، والخروج بنتاجات خاطئة قد تعتمد عند غيره، وتصبح منهجا يسير الطلبة عليه، فالمشتري للبحوث العلمية والأطاريح الجامعية لا يضر نفسه فحسب، بل يضر مجتمعه وأمته والعلم أجمع.
واجب الدولة تجاه فتنة بيع المعرفة
لا بد من الإشارة إلى أن الدول التي تحتضن جامعات ومؤسسات تعليمية غزتها هذه الظاهرة المتمثلة ببيع المعرفة، التي تؤدي في نهاية الأمر إلى الحصول على شهادات علمية بطرق غير سليمة عليها واجبات كثيرة لمحاربة هذه الظاهرة لما فيها من خطر محدق على وجودها وتقدمها، فالدولة التي تحترم العلم والمعرفة، وتهتم في مستقبل أبنائه والجيل القادم ترفض مثل هذه الممارسات، إذ يفترض أن تشدد الرقابة على الدراسات الجامعية، وتلاحق المراكز والأشخاص المتصدّين لمهنة كتابة البحوث والرسائل العلمية، ووضع قوانين تجرم هذا الفعل، وتضع عقوبات رادعة تمنع انتشار هذه الآفة، وفي ذات الوقت لا يجوز أن تغفل عينها عن طلبة العلم والدراسات، فليس كل من دخل الجامعة وتصدى للدراسة يعد مؤهلا لأن يحمل الشهادات العليا، إذ يجب عليه أن تضع إجراءات صارمة فيما يخص القبول لبرامج الدراسات العليا، وهذا الأمر لا يعد احتكارا للعلم، فالعلم مبثوث في بطون الكتب، لكن هذه الإجراءات الصارمة تحدد من يستحق أن يحمل الشهادات العليا، وأن يكون قادرا على البحث والدراسة، وتقديم تجارب علمية ونظريات تساهم في التطور العلمي، وتكون في الوقت نفسه ذات مكانة علمية عالية، إذ إننا نشهد في زمننا الحاضر كثافة الدراسات العلمية لكن على الرغم من هذه الكثافة نجد نوعية هذه الدراسات ليس فيها قيمة علمية، وذلك بسبب ضعف المنهجية، والتسرع في العمل وعدم التأني، وكثرة الأخطاء المنهجية التي قد تعطي نتائج مغايرة للصواب.