العملات المشفرة و«البلوك تشين».. ثورة تشكل مستقبل المال من منظور تقني وشرعي

بقلم: د. فداء منصور الجوهري

وسط التحولات التكنولوجية المتسارعة التي يشهدها العالم، يبرز مفهوم العملات الرقمية المشفرة وتقنية «البلوك تشين» كقوة دافعة لإعادة شكيل النظام المالي العالمي، لم تعد هذه المفاهيم مجرد اتجاهات هامشية، بل أصبحت واقعًا مؤثرًا يثير تساؤلات حول مستقبل التعاملات المالية، ودور البنوك المركزية، وحتى مفهوم الثقة في الاقتصاد الرقمي.

في هذا المقال، نستعرض أحدث التطورات في هذا العالم، وتأثيرها المحتمل على النظام المالي العالمي، مع التركيز على التحديات التنظيمية والشرعية المرتبطة بها.

تطور عالم العملات الرقمية

شهدت السنوات الأخيرة تطورات هائلة في مجال العملات الرقمية المشفرة، بعد الظهور القوي لعملة البيتكوين عام 2009م (كأول عملة رقمية مشفرة)، ظهرت آلاف العملات الرقمية الأخرى مثل «إيثريوم» و«ريبل» وغيرهما، ولكل منها خصائصها واستخداماتها، فلم يعد الأمر يقتصر على مجرد وسيلة للدفع الرقمي، بل امتد ليشمل مفاهيم جديدة مثل:

– التمويل اللامركزي (دي فاي)): وهو نظام يسعى إلى بناء بدائل مفتوحة وشفافة للخدمات المالية التقليدية، حيث يتيح الحصول على خدمات مالية (مثل القروض أو التداول) دون الحاجة إلى بنك أو جهة وسيطة.

– الرموز غير القابلة للاستبدال (ان اف في اس)): وهي رموز رقمية تُستخدم لإثبات ملكية محتوى رقمي، مثل لوحة فنية أو مقطع موسيقي، وقد أحدثت ثورة في ملكية الأصول الرقمية والفنية.

– العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية (سي بي دي سي اس)): وهي محاولات من الحكومات لتطوير نسخ رقمية من عملاتها الرسمية، مثل اليوان الرقمي في الصين أو اليورو الرقمي في أوروبا؛ ما يمثل اعترافًا رسميًا بإمكانات هذه التقنية.

النظرة الشرعية للعملات الرقمية

مع التوسع في أنواع العملات الرقمية، تتشابك التساؤلات الشرعية حول مشروعية التعامل بها، حيث يختلف الحكم باختلاف طبيعة كل منها، بالنسبة للعملات المشفرة التقليدية مثل «البيتكوين»، يدور الجدل الفقهي حول اعتبارها مالاً شرعيًا وما يترتب على ذلك من أحكام، فبعض الفقهاء يرى جواز التعامل بها إذا ما استقرت قيمتها وأصبحت وسيطًا للتبادل، بينما يحرمها آخرون لعدم توافرها على خصائص العملات ولا وظائف النقود فضلاً عن كونها تتضمن الغرر والجهالة المفرطة والأخطار العالية التي قد تصل إلى حد القمار (الميسر).

أما التمويل اللامركزي، فيُمكن أن يفتح آفاقًا لتطوير حلول مالية متوافقة مع الشريعة الإسلامية، خاصة إذا ما بُنيت تطبيقاته على عقود المشاركة والمضاربة بعيدًا عن الفوائد الربوية والممارسات المحرمة، وكذلك الرموز غير القابلة للاستبدال، فإن حكمها الشرعي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمحتوى الذي تمثله، فيجوز التعامل بها إذا كان المحتوى مباحًا ولا يخالف الشريعة وكانت تمثل ملكية حقيقية، ويحرم إذا كان المحتوى محرمًا أو كانت مجرد وسيلة للمقامرة.

وعلى النقيض، تبدو العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية أقرب إلى القبول الشرعي نظرًا لكونها عملات رقمية مدعومة من الدولة وتخضع لتنظيمها؛ ما يقلل من عوامل الغرر والجهالة المحتملة.

تقنية «البلوك تشين».. أساس للثورة الرقمية

تُعد تقنية «البلوك تشين» جوهر العملات الرقمية المشفرة، وهي ببساطة قاعدة بيانات أو سجل رقمي لا مركزي يعتمد على سلسلة من «الكتل» التي تحتوي على بيانات ومعاملات يتم التحقق منها وتشفيرها وإضافتها بشكل دائم إلى سلسلة متصلة وغير قابلة للتلاعب، أشبه بدفتر حسابات عالمي يستخدم أعلى مستوى من التشفير، بمجرد تسجيل المعاملة في كتلة، تصبح جزءًا لا يتجزأ من السلسلة يصعب التلاعب بها، ما يميز هذه التقنية:

– اللامركزية: تُضعف الطبيعة اللامركزية للعملات الرقمية دور المؤسسات المالية التقليدية كوسيط؛ ما يقلل التكاليف ويزيد الكفاءة والسرعة.

– الأمان: تستخدم العملات الرقمية تقنيات تشفير متقدمة لضمان أمان المعاملات وإخفاء هويتها.

– الشفافية: تُخزّن سجلات معاملات العملات الرقمية على سلسلة كتل متاحة للعامة؛ ما يزيد من شفافية المعاملات.

لم يعد استخدام «البلوك تشين» محصورًا في العملات الرقمية، بل امتد ليشمل تطبيقات متنوعة في مجالات كثيرة مثل إدارة سلاسل الإمداد، وحماية الملكية الفكرية، والتصويت الإلكتروني، والرعاية الصحية؛ ما يدل على الإمكانات الهائلة لهذه التقنية في تغيير العديد من الصناعات.

ومن الناحية الشرعية، لا إشكال في تقنية «البلوك تشين» بحد ذاتها كتقنية لتسجيل البيانات وحفظها وتأمينها، فهي أداة محايدة، وقد تتوافق اللامركزية والشفافية التي توفرها مع مبادئ الشريعة في العقود والمعاملات التي تتطلب الوضوح ومنع الغرر، خاصة إذا استخدمت في تطبيقات مباحة والتزمت بالضوابط.

التأثير المحتمل على النظام المالي العالمي

يحمل صعود العملات الرقمية المشفرة وتقنية «البلوك تشين» في طياته إمكانات تحويلية للنظام المالي العالمي، يمكن لهذه التقنيات أن توفر بدائل أكثر كفاءة وشمولية للخدمات المالية التقليدية كتقديم خدمات مالية بدون بنوك، خاصة بالنسبة للفئات التي لا تحصل على خدمات مصرفية كافية؛ حيث يستطيع أي شخص الوصول إلى خدمات مالية مباشرة من هاتفه، كما يمكن أن تسهل المدفوعات العابرة للحدود وتقلل تكلفتها وتحسن من سرعة التنفيذ، وتعزز الشفافية والأمن في المعاملات المالية باعتبار أن كل المعاملات مسجلة ويمكن تتبعها.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي التمويل اللامركزي إلى إعادة هيكلة بعض جوانب النظام المالي وابتكار أدوات مالية جديدة من خلال منصات الإقراض والاستثمار المبنية على «البلوك تشين».

وقد بدأت بعض الدول تتفاعل مع هذه التغيرات، بما في ذلك بعض الدول العربية التي تدرس إطلاق عملات رقمية خاصة بها، وتحاول تنظيمها بدلاً من مقاومتها، من خلال تبني عملات رقمية للبنك المركزي بهدف حماية اقتصادها ومواطنيها، وكوسيلة للتحكم في الاقتصاد الرقمي.

التحديات التنظيمية والأمنية والشرعية

على الرغم من الإمكانات الواعدة، تواجه العملات الرقمية المشفرة وتقنية البلوك تشين تحديات كبيرة، خاصة على الصعيدين التنظيمي والأمني، فلا يزال الإطار التنظيمي لهذه التقنيات قيد التطور في معظم دول العالم؛ ما يخلق حالة من عدم اليقين ويفتح الباب أمام الأخطار، هذا بخلاف غياب القوانين، كثير من الدول لم تضع بعد قوانين تنظم استخدام العملات الرقمية وتحمي المستثمرين أو تمنع استخدام هذه التقنيات في أنشطة غير قانونية مثل غسيل الأموال، دون تقييد الابتكار.

أما على الصعيد الأمني، فرغم قوة تقنية «البلوك تشين»، تظل العملات الرقمية عرضة لعمليات الاختراق والقرصنة، كما أن فقدان كلمة المرور الخاصة أو الوقوع ضحية للاحتيال قد يؤدي إلى خسائر الأموال بالكامل؛ لذا فإن تعزيز الأمن السيبراني وتطوير آليات حماية فعالة للمستخدمين يمثل أولوية قصوى.

وعلى الجانب الشرعي، فإن غياب التنظيم الواضح للعملات المشفرة يثير مخاوف شرعية كبيرة، خاصة فيما يتعلق بـالغرر والأخطار غير المبررة، فتقلبات الأسعار الحادة، وغياب الجهة الرقابية، والتعرض لعمليات الاحتيال، كل هذا يجعل الاستثمار فيها مشوبًا بالأخطار التي قد تصل إلى حد الحرمة في بعض الحالات، كما أن إمكانية استخدامها في غسل الأموال وتمويل الإرهاب يجعلها محلاً للمنع الشرعي، فالشريعة تحرم كل ما يؤدي إلى الفساد أو يضر بالمجتمع.

موقف الدول العربية تجاه العملات المشفرة

تباينت مواقف الدول العربية بشكل كبير على الصعيد التنظيمي تبايناً يعكس اختلاف الفتاوى الشرعية الصادرة من الهيئات الدينية، فبينما اتجهت بعض الدول، مثل السعودية ومصر، إلى فرض قيود مشددة أو حظر للعملات المشفرة نظرًا لأخطارها الشرعية من غرر وجهالة، وأخطارها المحتملة على الاستقرار المالي وأمن المستثمرين، بدأت دول أخرى مثل الإمارات والبحرين في استكشاف أطر تنظيمية للعملات المشفرة وتقنية «البلوك تشين» استنادًا على آراء تجيزها، بل والعمل على تبنيها في مجالات معينة؛ ما يعكس تباينًا في الرؤى ونهجًا حذرًا في التعامل مع هذه التقنيات.

تمثل العملات الرقمية المشفرة وتقنية «البلوك تشين» نقلة نوعية في شكل النظام المالي العالمي، بين وعود بتيسير المعاملات وتعزيز الشمول المالي، ومخاوف تتعلق بالتنظيم والأمان، كما أن التعامل معها من منظور شرعي يتطلب حذرًا بالغًا، يجب على الأفراد والمؤسسات المالية التحقق من الجوانب الشرعية لكل تطبيق، والابتعاد عن كل ما فيه غرر أو يؤدي إلى مُحرم، ووضع إطار تنظيمي واضح ومحكم، يتوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية، سيساعد على استغلال هذه التقنيات في بناء نظام مالي أكثر عدلاً وشفافية.

تواصل معنا

انضم إلى نشرتنا الاخبارية

حقوق الملكية ©AATWorld 2023. جميع الحقوق محفوظة. AATWorld

من نحن

هنا في مجموعة AAT ، يتعرف التجار ورجال الأعمال والمصنعون والمستوردون والمصدرون على بعضهم البعض ويتعاونون على الرغم من المسافات والبلدان واللغات المختلفة.

الاخبار

Newsletters

لا تخسر العروض والفرص التجارية

انضم إلى قائمتنا البريدية لتلقي آخر أخبار المنتجات وتحديثات الصناعة من التجارة العربية الآسيوية

2025@ AATWorld  | جميع الحقوق محفوظة.