بقلم: نور عبد الرحمن النمر
حيثما يمم الناظر في عالمنا اليوم وجهه، فما يلبث أن يرى أحدًا إلا وهو محدق بشاشة، سواء كانت
شاشة هاتفه أم تلفازه أم حتى سيارته، وتحولت التقنية أو التكنولوجيا من نافذة جديدة نرى بها العالم
بمنظور مختلف إلى النافذة التي نرى من خلالها العالم، بما لهذا التحول من مزايا وعيوب فيما صار
يُعرف حاليًا بعصر التحول الرقمي.
أنماط الاستهلاك الثقافي في عصر التحول الرقمي
كانت بداية التحول الرقمي في عالم القراءة بالانتقال من كتب من ورق له عبق وملمس مسطورة
بالحبر، إلى شاشة مسطورة بآلاف البيكسلز (Pixles)، ومن المقروء إلى المسموع إلى المشاهد في
بعض الأحيان، تحوُّل لا شك يسَّر سبل الوصول إلى المعرفة بل واستهلاكها كذلك، ويبقى الجدال الدائر
بين الكتب الورقية والإلكترونية مجرد جدال على الوسيلة أكثر منه على حصول الأثر المرجو منها،
لكن لم يكن هذا التحول بلا ثمن.
الاستهلاك الثقافي الرقمي والرأسمالية
إذا أردت أن تقرأ كتابًا إلكترونيًا فعليك قبل شرائه، شراء ما تقرأه عليه وهو في مثالنا جهاز
«الكيندل» (Kindle) من أمازون، ثم بعد شرائه، تقوم بشراء الكتاب نفسه لتكتشف أنك لا تملك
الكتاب حقيقة، بل في الحقيقة أنك تستعيره بسبب سياسات أمازون الجديدة التي تمنعك من تحميل
كتاب دفعت ثمنه كاملًا بالفعل.
وإذا أردت الاستماع لهذا الكتاب فما عليك إلا أن تشترك في خدمة أمازون للكتب الصوتية
«Audible»، وهكذا يجد القارئ نفسه بين مطرقة «كيندل» وسندان «أودوبل»، وما هذا إلا مثال
بسيط للهيمنة المستمرة لشركة كأمازون على القطاعات المختلفة بصورة تقتل التنافسية، ويكون
المستهلك فيها هو الضحية للسياسات الرأسمالية التي جعلت هدفها الأوحد تعظيم الربحية.
سهولة التعلم.. إيجابيات وسلبيات
رغم تعدد وسائل تحصيل المعرفة بصورة غير مسبوقة، وامتداد التحول الرقمي إلى العملية التعليمية
كذلك من خلال منصات مثل «Coursera, edX»، ورغم كون تحصيل المعرفة والتعلم أسهل من أي
وقت مضى، بيد أن هذا لا ينعكس بالصورة المتوقعة، فسهولة الوصول إلى المعرفة جعلتنا أكثر زهدًا
فيها؛ لأننا اعتدنا أن نربط النتائج العظيمة بالعمل الشاق فيما يعرف بـ«متلازمة انحياز الجهد»
(Effort Justification Bias)، ولمجرد أن المحاضرة صارت متاحة بصورة مجانية على
«يوتيوب» فهذا في ذهن البعض يقلل من أهميتها العلمية والمعرفية تلقائيًا.
نضف إلى هذا، كثرة المشتتات أثناء التعلم على الإنترنت، فطوال اتصالك به أنت إما تتلقى إشعارًا أو
رسالة أو ترشيحًا، ووسط هذا السيل العارم من المشتتات التي لا تتوقف عن التدفق يصبح التركيز في
حد ذاته تحديًا، ومقاومة كل هذه المشتتات يستهلك بلا شك مجهودًا ذهنيًا كان ليكون أكثر جدوى لو
بُذل في العملية التعليمية ذاتها.
ومع رقمنة كل شيء من حولنا، أصبح أبسط شيء كتدوين الملاحظات الذي لم يكن يحتاج في الماضي
لأكثر من ورقة وقلم له أكثر من ألف تطبيق لكل واحد فيها ألف مزية ومزية، لا يعني هذا أن نجحد
كوننا وبسبب التكنولوجيا نملك رفاهية انتقاء مدرس خصوصي من بين آلاف المدرسين الخصوصيين
في الوقت الذي نريد وفي المكان الذي نريد، في حين كان توفير واحد فقط يعتبر امتيازًا للطبقة
البرجوازية في العصر الفيكتوري، وكانت الأسر الأرستقراطية فقط قادرة على توفير تعليم فردي
لأبنائها، أما الآن فكل من لديه إنترنت يملك ما كان حِكرًا على علية القوم.
ونجد أفضل تصور للتكنولوجيا في عالمنا اليوم أن نتخيلها كحصان طروادة؛ فإما أن نكون بداخله،
وإما أن نكون المتفرجين عليه المبهورين به، أما كوننا بداخله، فهو أن نغربل التكنولوجيا؛ نأخذ
خيرها، وننبذ شرها، وأن نكون فيها من الرائدين.
وأما كوننا من المتفرجين عليها فهو أن نتركها تغزو بيوتنا ونحن مسلوبو الإرادة، نترك أبناءنا
مفترشين الأرض أمام شاشة التلفاز الكبيرة بالساعات بينما نفترش نحن الأرائك على الشاشات
الصغيرة، ثم نتعجب: لماذا هذا الجيل مختلف عمن سبقوه؟! ولا نسأل أنفسنا عمن ظلموه، وفي سن
تنشئته أغفلوه، وأمام الملهيات تركوه!
الذكاء الاصطناعي.. ومستقبل التأليف
يمتد ما ذكرناه آنفًا عن سهولة التعلم ليشمل الاستعانة بأدوات كالذكاء الاصطناعي وما يخلقه من
التكلة عليها عند من يستعملها، بالإضافة إلى ركاكة اللغة التي يورثها لمن يعتمده مصدرًا لبناء ملكته
اللغوية، وضجت مكتبات اليوم بترجمات تمت بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي لا تعرف فيها من الكلام
العربي إلا رسمه من رداءة الصنعة اللغوية، والسعي الحثيث لكثير من دور النشر على ملء الأرفف
والجيوب بالتبعية ولو على حساب جودة المحتوى.
في النهاية، فإن التغير التكنولوجي على كونه فريدًا من جهة كونه غير مسبوق في صورته، إلا أنه
يظل محتفظًا بخصائص التغيير من حيث كونه ذا محاسن ومساوئ.
والسعيد من استغل محاسنه وانتبه لمساوئه غير عابث بالقيل والقال عن كيف كنا قبل التكنولوجيا
وإلامَ صرنا بعدها؟! فالسكين التي تقتل هي نفسها التي تقطع الفاكهة.
وما التكنولوجيا إلا أداة وعلى صاحبها توجيهها فيما ينفعه إن أراد النفع على الحقيقة لا مجرد
الشكاية من الوضع القائم.
