منظومة «البريكس».. والنظام الاقتصادي البديل

بقلم: قاسم الظافر

منذ بدايات القرن العشرين، بدأ يبرز اتجاه وأفق تفكير جديد، ذو طابع عملي، يدفع نحو ضرورة تعزيز التعاون الأممي لمواجهة التحديات والأزمات التي تواجه البشرية، ونما هذا المنحى بصورة ملحوظة وأكثر وضوحاً أثناء – وما بين – وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، كاستجابة ضرورية لتدارك الآثار والتداعيات الجسمية التي أفرزتها تلك الصراعات التي تبدت في صورة أزمات مركبة ذات أبعاد إنسانية، وسياسية واقتصادية.

وقد برزت على إثرها قضايا كبرى مُلحّة، مثل إرساء السلام العالمي، وإعادة الإعمار من جراء الدمار الهائل الذي خلفته الحروب، فضلاً عن تعزيز التعاون في الإطار الإنساني والاقتصادي لضمان التصدي لمثل هذه الأزمات مستقبلاً، وغيرها من القضايا التي تتطلب حشداً للجهود وتضافراً أممياً واسعاً بقدر الإمكان؛ إذ يستحيل ويتعذر التصدي لهذه الأزمات بصورة كيانات (دول) أحادية.

سرعان ما تطورت هذه النزعات إلى قوالب عملية، حيث شهدت الفترة التي تلت مؤتمر باريس للسلام (1919م) بروز عصبة الأمم في عام 1920م كأولى مؤسسات التضامن الأممي، التي تطورت لاحقاً بعد الحرب الثانية في عام 1945م إلى منظمة الأمم المتحدة وصولاً إلى نسختها الحالية التي تحتوي على 6 أجهزة رسمية، هي: مجلس الأمن، المجلس الاقتصادي، مجلس الوصاية، محكمة العدل، الجمعية العامة، والأمانة العامة، تدير من خلالها شؤونها، بالإضافة إلى ما يقرب من 20 منظمة تابعة لها تطلع كل منها بمهام محددة بحسب التخصص، من أهمها منظمة الأغذية (FAO)، ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، منظمة التنمية الصناعية (UNIDO)، وصندوق النقد الدولي (IMF)، والبنك الدولي (WB)، ومنظمة التجارة العالمية (WTO)، إضافة إلى عدد مُقدّر من الوكالات، والصناديق والهيئات الفرعية الإقليمية والعالمية الأخرى التي تساعد المنظمة في إدارة شؤونها للقيام بمهامها وتحقيق أهدافها.

في الإطار الاقتصادي، لم يكتسب هذا التطور المؤسساتي الضخم فاعلية وقيمة ذات بال بمعزل عن مخرجات المؤتمرات السياسية – الاقتصادية التي عقدت في تلك الفترة، التي تبنتها المنظمة الأممية وباتت تشكل وتصوغ فلسفتها الكلية، في أثناء سعيها لتقديم حلول لمعالجة الإشكالات الاقتصادية وقتئذٍ.

مؤتمر بريتون وودز (1944م)، دفع برؤية جديدة لإدارة الشأن الاقتصادي والنقدي والتجارة العالمية، ومهّد الطريق بجملة من القرارات المحورية التي ساهمت في صياغة النظام النقدي العالمي، وتشكيل ملامح التجارة العالمية على نحو غير مسبوق، من خلال نظم وقوانين جديدة (راجع: اتفاقية جات عام1947م)، وفضلاً عن توجيه حركة الاقتصاد العالمي من خلال تبني فلسفة اقتصادية رأسمالية – ليبرالية صريحة، ونموذج تنموي محدد يقوم على اقتصاد السوق الحر، والانفتاح العالمي وغيرها من محددات الاقتصادي الرأسمالي المعروفة، التي أصبحت تمثل الفلسفة المركزية للاقتصاد والتجارة العالمية.

أدوات الهيمنة الحديثة

قوبلت هذه التوجهات في بادئ الأمر بمعارضة قوية خصوصاً من دول الجنوب (الدول النامية)، وعدد من الاقتصاديات الناشئة الأخرى التي اعتبرت هذه الخطوة بمثابة محاولة منظمة لفرض الهيمنة الغربية عموماً والأمريكية على وجه الخصوص بغرض السيطرة على الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية، تشارل ديغول (1890 – 1970م) مؤسس الجمهورية الخامسة في فرنسا، كان أحد أبرز المنتقدين لهذه السياسات الجديدة التي جعلت من الدولار الأمريكي العملة الوحيدة للتبادل التجاري العالمي، الخطوة التي منحت الدولار ميزة تفضيلية عن باقي العملات المحلية، ووضعته تماماً في مقام الذهب الذي كان يشكل المعيار الأساس لضبط حجم الكتلة النقدية، ويمثل القيمة الجوهرية للعملات الرسمية.

تعززت هذه المواقف مع مرور الزمن من خلال الممارسات العديدة والمنحازة التي قامت بها المنظومة الأممية بشقيها السياسي والاقتصادي، سواء عبر جملة القرارات والسياسات التي يصدرها مجلس الأمن أو أي من أجهزتها الأخرى، التي تصب بصورة مباشرة في مصلحة الدول العظمى المؤسسة والراعية للمنظومة الأممية؛ مما أفقدها الكثير من الثقة والدعم المطلوبين، وتم تصنيفها كإحدى أدوات الاستعمار والهيمنة الجديدة.

فضلاً عن الكثير من الإشكالات والنتائج السيئة التي تكشفت بصورة واضحة في الآونة الأخيرة، المرتبطة بالنموذج الاقتصادي الرأسمالي نفسه، وسياساته النقدية والمالية، التي ظلت هي السياسة المهيمنة على المنظمة وأجهزتها، تتحدث تقارير عديدة من أبرزها تقرير منظمة أوكسفام عن أن 1% فقط من سكان العالم يستحوذون على ما مقداره ثلثي ثورة العالم، وليست اللامساواة هي الأزمة الوحيدة التي تسببت فيها سياسات المنظومة اللبرالية التي تواجه الاقتصاد العالمي اليوم، وإنما تفاقم أزمة الغذاء، والارتفاع المستمر لنسب الفقر والبطالة والتضخم، والأزمات المالية الحادة المتكررة التي باتت تواجهها معظم الاقتصاديات في العالم بما فيها الاقتصاديات الكبرى نفسها (راجع: الأزمة المالية في عام 2008م، أزمة الديون في اليونان عام 2010م، والأزمة المالية في عام 2011م وتداعياتها).

شروق الشرق

على هذ النحو، كان لا بد من إعادة النظر والتفكير بصورة مختلفة وأكثر جدية في كيفية تحسين أوضاع الاقتصاد العالمي، وبيئة التجارة الدولية، والبحث في صور مثلى لتعزيز سُبُل التعاون الدولي، تقوم على أسس مختلفة، بخلاف تلك التي تأسست عليها المنظومة السابقة.

وفي ذات السياق، برزت من الشرق نماذج اقتصادية ضخمة وناجحة، سجلت في فترات وجيزة نتائج اقتصادية وتنموية مذهلة، حيث أثبتت جدارتها في تحقيق نسب نمو فوق المتوسط، وتمتعت اقتصادياتها بقدرة عالية في المحافظة على الكثير من المؤشرات الإيجابية حتى في فترات الأزمات المالية سابقة الذكر.

الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل بحلول سبتمبر 2006م وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ولأول مرة، اجتمع وزراء خارجية الدول الأربع للإعلان عن بداية تعاون مشترك تحت مسمى «BRIC»، وعقدت المجموعة أول اجتماع لها في روسيا عام 2009م، وتضمن الإعلان تأسيس نظام عالمي ثنائي القطب، لاحقاً تطورت المنصة لتصبح «BRICS» بعض انضمام جنوب أفريقيا في عام 2020م.

هذه الاقتصاديات ال 5 إضافة إلى عدد 6 دول أخرى حديثة الانضمام للمنظومة، هي: السعودية، ومصر، وإيران، والإمارات، والأرجنتين، وإثيوبيا، تحت مظلة «بريكس-بلس؟» (BRICS-Plus)، باتت بفضلها تمثل المنظومة أكثر من 3.5 مليارات نسمة؛ أي حوالي 45% من سكان العالم، كما تشغر حيزاً جغرافياً يقدر بنحو 30% من مساحة الكرة الأرضية، بما فيها مواقع ومضايق وممرات تجارية مهمة، تساهم دول المجموعة مجتمعة بأكثر من 28.5 تريليون دولار؛ إذ تمثل حوالي 28% من إجمالي حجم الاقتصاد العالمي.

نظام اقتصادي بديل

لم تتوقف الدول الكبرى المنضوية تحت منظومة «البريكس»، وخصوصاً روسيا والصين، في دعواها الدائمة والمتجددة نحو إعادة تشكيل نظام عالمي جديد يقوم على أسس وقيم جديدة تتصدرها المساواة، والتعاون الإيجابي المثمر بين الدول وشعوب العالم، بعيداً عن ممارسة الضغوط أو التأثيرات السياسية للتغير السياسي أو الاجتماعي.

اعتمدت منظومة «البريكس» على هيكلة مالية تقوم على مؤسستين؛ الأولى: بنك التنمية الجديد (New Development Bank) الذي يشار إليه أحياناً باسم بنك تنمية البركس (BRICS Development Bank)، الذي تم الاتفاق على إنشائه في عام 2014م بمقره الدائم في شانغهاي، من المرجح أن يبدأ عمله برأسمال قدره 100 مليار دولار.

وتمثل المؤسسة الثانية: مؤسسة ترتيبات احتياطي الطوارئ لدول البريكس (BRICS Contingent Reserve Arrangement) اختصاراً (BRICS CRA)، التي تعتبر بمثابة إطار لتوفير الحماية اللازمة ضد ضغوطات السيولة العالمية المتوقعة، من أجل تحقيق بيئة اقتصادية مستقرة في الأسواق الناشئة، وينظر إلى أن المؤسسة الأولى توازي البنك الدولي ومنظومته، والمؤسسة الثانية تمثل نظيراً لصندوق النقد الدولي (IMF).

كما طورت المنظومة نظام دفع خاصاً بها بديلاً عن نظام «السويفت» (SWIFT) يعتمد في تسوية المدفوعات بصوة أساسية على العملات الوطنية للدول المنضوية تحت منظومة «البريكس»؛ مما يوفر ذلك قدراً كبيراً من الاستقلالية لهذه الاقتصاديات خارج دائرة توظيف الدولار في التجارة العالمية، وبالفعل طورت الصين نظاماً حديثاً للدفع باسم «Cross-Border Inter-bank Payment System» (CIPS) يصب في ذات الاتجاه.

تمثل منظومة «البريكس» كتلة اقتصادية لا يستهان بها من حيث التأثير والنفوذ والمساهمة في الاقتصاد العالمي، وتشكل اقتصادياتها ونماذجها التنموية، فضلاً عن مؤسساتها المالية خياراً بديلاً متاحاً لمواجهة النظام العالمي، وكسر قيد الهيمنة الغربية (في إطارها السياسي والاقتصادي)، وتوفر المنظومة خيارات وبدائل مثيرة تسحق المضي نحوها بثقة وثبات، لتحقيق مستقبل أفضل في هذا العالم.

تواصل معنا

انضم إلى نشرتنا الاخبارية

حقوق الملكية ©AATWorld 2023. جميع الحقوق محفوظة. AATWorld

من نحن

هنا في مجموعة AAT ، يتعرف التجار ورجال الأعمال والمصنعون والمستوردون والمصدرون على بعضهم البعض ويتعاونون على الرغم من المسافات والبلدان واللغات المختلفة.

الاخبار

Newsletters

لا تخسر العروض والفرص التجارية

انضم إلى قائمتنا البريدية لتلقي آخر أخبار المنتجات وتحديثات الصناعة من التجارة العربية الآسيوية

حقوق الملكية ©AATWorld 2023. جميع الحقوق محفوظة. AATWorld