بقلم: محمد غزال
مع فجر 8 ديسمبر 2024م، دخلت سورية لحظة تاريخية غير مسبوقة، بسقوط نظام الأسد الذي ارتبط عقوداً بالقمع والاستبداد، وانهيار منظومة اقتصادية بنيت على منطق الغنيمة، لا الدولة، ولم يكن السقوط مجرد حدث سياسي، وإنما انفكاك جذري عن شبكة مصالح مغلقة اختزلت الوطن في نخبة والاقتصاد في ريع واحتكار.
واليوم، بعد زوال الاستبداد، تقف سورية أمام فرصة نادرة لإعادة بناء اقتصاد يخدم الإنسان لا السلطة، ويقوم على الإنتاج لا الولاء، ويؤسس لعدالة تنموية بدل الامتيازات الطبقية، رغم ما تحمله المرحلة من تعقيد وتحديات.
قبل سقوط النظام البعثي السوري في ديسمبر 2024م، كان الاقتصاد يعيش حالة من الانهيار البنيوي المعمق، نتيجة تراكمات عقود من الإدارة الريعية والسلطوية، حيث كان الملف الحكومي ثانوياً على حساب ملفات تجارة «الكبتاغون» والرشوة والإتاوات، واقتصاد رجال الحرب والمليشيات.
وتشير بيانات الموازنة العامة لسورية إلى تدهور حاد في القدرة الإنفاقية للدولة، حيث انخفض الإنفاق العام من 14.6 مليار دولار عام 2010م إلى نحو 2.5 مليار فقط في عام 2024م، والأخطر من ذلك، كان التحول شبه الكامل نحو الإنفاق الاستهلاكي على حساب الاستثماري، حيث بلغت نسبة الإنفاق الجاري 85% من إجمالي موازنة عام 2022م؛ ما عطل أدوات النمو وأفقد الدولة وظيفتها التنموية، وواصل النظام تمويل عجزه عبر طباعة العملة، مع غياب أي إصلاح هيكلي حقيقي، وغياب الشفافية، وانعدام الكفاءة في إدارة الموارد، واتباعه سياسات اقتصادية تخبطية.
هذا الانحدار الاقتصادي رافقه تفكك في السياسة النقدية، إذ فقدت الليرة أكثر من 12500 ليرة من قيمتها أمام الدولار خلال الفترة من عام 2010 إلى 2024م، وتدهور الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات غير مسبوقة، حيث سجل في عام 2021م فقط 20 مليار دولار، مقارنة بنحو 60 مليار دولار عام 2010م، واتسعت الفجوة بين الناتج المحلي الإجمالي الاسمي والحقيقي؛ ما يعكس الانكماش الحاد والتضخم المزمن، كما تجاوز الدين العام 200% من الناتج؛ ما وضع سورية في حالة عجز مزدوج من مالي ونقدي إضافة لعجز إنتاجي.
الانعكاسات الاجتماعية لهذا الانهيار كانت مدمرة، فقد بات الحد الأدنى للأجور في عام 2024م لا يتجاوز 19 دولاراً، وهو لا يغطي أكثر من 10% من الحاجات الأساسية للأسرة السورية، وأن 3 من كل 4 أشخاص في سورية يعتمدون على المساعدات الإنسانية، في ظل معدلات تضخم تجاوزت 160% عام 2021م، و130% في عام 2023م.
كما ارتفعت البطالة إلى أكثر من 37%، بينما تجاوزت البطالة المقنعة الناتجة عن غياب الإنتاج الحقيقي 85%، في المقابل، تدهور الطلب على السلع والخدمات؛ ما أدخل الاقتصاد في حلقة ركود مفرغة، عززها الفقر المتصاعد، الذي بات يطال نحو 69% من السكان، بينهم 27% تحت خط الفقر المدقع، وفقاً لتقديرات للبنك الدولي في مايو 2024م.
لقد ورثت سورية في لحظة ما بعد التحرير اقتصاداً معطوباً في العمق، ومعزولاً عن المنظومة الاقتصادية العالمية سواء بعد منع سورية من الاستفادة من خدمات نظام «سويفت» العالمي، أو ما تعرضت له من عقوبات دولية، وارتباط ذلك بسياسات نظام الأسد؛ ما يعني أنه لا يحتاج إلى إصلاح تقني فحسب، بل إلى إعادة تأسيس شاملة لروحه ووظيفته، ولذلك، فإن أي مشروع تعافٍ حقيقي لا بد أن يبدأ من هذا الاعتراف بأننا لا نصلح نظاماً اقتصادياً معطوباً، بل نبني نظاماً من جديد.
فرص وآفاق التعافي
رغم ضخامة التحديات وتعقيد الإرث الاقتصادي، فإن لحظة ما بعد السقوط ليست مجرد مرحلة انتقالية، بل نافذة نادرة لخلق نموذج اقتصادي جديد، أكثر عدالة وكفاءة، وللمفارقة، فإن الانهيار العميق الذي وصلت إليه سورية ليس فقط نتيجة كارثة، بل هو أيضاً فرصة لإعادة التأسيس، بعيداً عن الإرث الإداري أو التشريعي الفاسد الذي قاد البلاد إلى الهاوية، وفرصة لتحويلها من بيئة نابذة للاستثمارات إلى بيئة جاذبة لها.
أول مؤشرات التعافي ظهر مع رفع العقوبات الدولية تدريجياً، خاصة بعد اعتراف عدد من الدول الغربية والعربية بالحكومة السورية الانتقالية، فقد أصدر الاتحاد الأوروبي، أخيراً، قراراً برفع جزء كبير من العقوبات الاقتصادية المفروضة على المؤسسات المالية والبنكية؛ ما يسمح بعودة التعاملات الخارجية ضمن الأطر القانونية، وفي خطوة لاحقة أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية ترخيصاً عاماً يسمح بالتحويلات المالية الشخصية والتجارية، وفتح المجال أمام مشاريع إنمائية حقيقية بتمويل خارجي، إضافة لتعليق العمل بقانون قيصر، في ظل توجه أمريكي نحو رفع العقوبات عن سورية.
تخفيف العقوبات وانفتاح الشراكات الخارجية ليس مجرد مكاسب دبلوماسية بل فرصة إستراتيجية لبناء الاقتصاد
ومع حالة الاحتضان العالمي للحالة السورية الجديدة التي تجلت في توقيع العديد من الاتفاقيات بقيم مليارية، وتصريحات حول إعادة تفعيل نظام «سويفت» التحويلات المالية مع سورية ورفع العقوبات الدولية، تجد سورية نفسها؛ حكومة وشعباً، أنها أمام فرص حقيقية للتعافي والنهوض الاقتصادي.
تكمن أولى هذه الفرص في الطاقة البشرية السورية، في الداخل والشتات، حيث ينتشر آلاف السوريين حول العالم، ويعملون في كبرى البيئات الإنتاجية، ويحملون معرفة حقيقية بالأسواق، والتقنيات، وأنظمة الإدارة، ليعودوا كفاعلين لا كمتسولين على أعتاب الدولة.
ثانياً: تمتلك سورية إمكانات طبيعية مهملة لكنها واعدة؛ مساحات زراعية كبيرة، وموارد طبيعية وثروات باطنية متنوعة، وموقع إستراتيجي يمكن أن يحولها إلى مركز لوجستي إقليمياً، كما أن الطاقة الشمسية تعد مورداً طبيعياً لم يستغل بعد، وتوفر إمكانية لتقليل الاعتماد على الوقود.
ثالثاً: هناك إرادة إقليمية ودولية جديدة للاستثمار في سورية والمساهمة في إعادة الإعمار، ليس فقط من باب المصلحة الاقتصادية، بل من باب الاستقرار السياسي الإقليمي، حيث وقعت دول عدة منها قطر وتركيا والإمارات والولايات المتحدة وفرنسا وغيرها مجموعة من الاتفاقيات في الطاقة والموانئ والبنية التحتية، بالإضافة لزيارات مهمة لممثلي دول ومستثمرين، من بينها الكويت والسعودية.
فبعد عقود من التسلط والتخريب الاقتصادي، وصلت سورية إلى لحظة مفصلية عقب سقوط النظام في ديسمبر 2024م، لم تعد الفرصة مقتصرة على التغيير السياسي، بل باتت ممكنة لإعادة تعريف دور الاقتصاد في خدمة الإنسان والعدالة، حيث إن تخفيف العقوبات الدولية وانفتاح الشراكات الخارجية ليست مجرد مكاسب دبلوماسية، بل فرصة إستراتيجية لبناء اقتصاد قائم على الإنتاج لا الفساد، وعلى القيمة لا الولاء، ورغم أن طريق التعافي طويلة، فإنها تبنى هذه المرة على أرضية مختلفة؛ وهي أن سورية بلا طغيان؛ ما يفتح المجال أمام السوريين لصياغة نموذج اقتصادي أكثر عدالة وكرامة واستدامة.