بقلم: محمود زناتي
إذا غصنا في أغوار التاريخ الإنساني فإننا سوف نلاحظ كيف توحدت العائلات والقبائل -التي يربطها رباط الدم- معا على مر العصور ليكوّنوا الأقاليم و المدن ذات الحكم الموحد والتي تتفاوت في قوتها، وما يلبث أن تفرض الأقاليم القوية سيطرتها على الأقاليم الضعيفة مكونةً الدول والإمبراطوريات التي تتعدى في معظم الأحيان حاجز العرق بين أفرادها، إذًا فنحن أمام «العائلة» أو «الأسرة» تلك اللبنة الأساسية المكونة للإمبراطوريات ونواة التقدم البشري (على الأقل في المنظور الإسلامي)، لكن تُرى هل شكل العائلة في الأزمان الغابرة هو ذاته التي نعتاد عليه الآن؟! لنجيب على هذا التساؤل دعنا نرى كيف كان مفهوم الأسرة والعائلة عند العرب…
العائلات عند العرب
لطالما افتخر العربي القديم بقبيلته وبني قومه حتى قال عمرو بن كلثوم مفتخرا بقبيلته تغلب في معلّقته الشهيرة في خضم خصام قبيلته مع قبيلة بكر:
إذا بلغ الفطام لنا صبي … تخر له الجبابر ساجدينا
فكان الرد بمعلّقة مثلها قالها الحارث بن حلزة مفتخرا بقبيلته بكر وقادحا في قبيلة تغلب، وكان مما جاء فيها معيرا خصمه بهزائمه:
ليس منا المضَرَّبون ولا قيْ … سٌ ولا جندل ولا الحذَّاء
إذن كما هو واضح كانت الأسر العربية القديمة مترابطة ويعرف جميع أفرادها بعضهم البعض بل يزيد الأمر عن ذلك بمعرفة الرجل العربي لأبناء عمومة قبيلته من أجداد الأجداد، وقد عُني علماء الاجتماع بعلم الأنساب العربي حتى إنهم قسَّموا الأنساب العربية إلى الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفصيلة، لكن ما هي العائلة (الأسرة) الممتدة…؟
الأسرة النووية والأسرة الممتدة
الأسرة أو العائلة الممتدة هي الأسرة أو العائلة التي تتكون من الأب والأم والأبناء وتمتد إلى الأعمام والأخوال وأبنائهم والعمات والخالات وأبنائهن والجد والجدة من ناحية الأم والأب، ويترابطون معا برباط الدم والرحم ويعيشون معا في مكان واحد، على الجانب الآخر فإن الأسرة أو العائلة النووية هي تلك المكونة من أب وأم وأطفال فقط لا غير، ويفقدون التواصل مع باقي عائلتهم الكبيرة لسبب أو لآخر، لكن ما هي العوامل التي أثرت في تفكيك العائلات الممتدة لأخرى نووية؟!
العوامل المؤثرة على تفكيك العائلات الممتدة
العامل الاقتصادي
تُعد التغيّرات الاقتصادية إحدى أهم العوامل التي أثرت في تفكيك الأسرة، ولنضع أيدينا على مدى تأثيرها دعونا نرجع بالزمن إلى القرن السابع عشر بداية الثورة الصناعية في أوروبا حيث بدأت حملة إنشاء المصانع والتحول من الاعتماد على الزراعة إلى الاعتماد على الصناعة، تجد بشكل واضح الأسرة الأوروبية التقليدية حيث الأب والأم وكثير من الأبناء في بيت ريفي يسكن بجوارهم الأعمام وبقية الأقارب يلعب أطفالهم معا وينشأ كل واحد منهم بصحبة رفيقه الذي يدانيه في العمر من أقاربه، إذا مات أحد الآباء في هذه الأسرة الممتدة فتكاد لا تستطيع تمييز أي الأطفال الذين يلعبون معا هو من تيتم، فالجد والعم والخال وغيرهم لا يلبثون أن يقوموا بدور الأب فينشأ الفتى فيهم ولا يشعر بمرارة اليتم تقريبا ولا تشعر الأم بضيق الحال؛ حيث تتكافل الأسرة جميعا لسد احتياجات تلك الأم وأطفالها، على الجانب الآخر تجد أصحاب الأعمال مصانعهم تريد سد ظمئها من العمالة، عارضين رواتب مجزية لا يمكن مقارنتها مع العوائد المادية الهزيلة للزراعة.
وكما هو متوقع سيلجأ بعض أفراد الأسرة للعمل في الصناعة في المدينة التي يختلف طبيعة مبانيها عن الأماكن القروية لتستوعب كل هذا الكم من السكان وذلك بعيدا عن باقي العائلة ويعتادون على العيش منفردين نظرا للحياة السريعة التي تتصف بها حياة المدينة ومواعيد الوظائف مما يؤثر على التواصل مع أفراد العائلة وتنشأ الأجيال الجديدة جاهلة بأفراد العائلة الممتدة، وهكذا تفككت الأسر الممتدة لأسر نووية صغيرة متبعثرة.
العامل السياسي
بالنظر إلى جهة أخرى، ثمة فرق آخر بين الأسر الممتدة والأسر النووية، لاحظ السياسيون بأن الأسر الممتدة مترابطة مقارنة بتلك النووية، وفي حين يرى بعض السياسيين أن الترابط مهم لوحدة المجتمع لمواجهة العدو مثلا فإن البعض الآخر يرى الترابط خطرا كامنا يهدد حكمه في أي لحظة فيلجأ إلى التفكيك بشكل أو بآخر.
على سبيل المثال: ذكر عبد المجيد لطفي في كتابه العرب البدو في مصر كيف أن محمد علي باشا حاكم مصر في عصره كان يرى القبائل العربية في مصر ذات النفوذ تمثل خطرا على حكمه ولعله رأى منهم ما وضع في عقله ذلك الهاجس، فبدأ في وضع الامتيازات لأفراد القبائل العربية لدمجهم في الصناعة والتعليم والعمل الحكومي (بشكل لا يجعل لهم شوكة ونفوذا) لكنهم رفضوا ذلك رفضا باتا لعلمهم بما هو مخطط من طرفه لتفكيكهم وجعلهم أسرا نووية تذوب في الحياة المدنية ولا يجعل لهم قوة ونفوذا كما هو وضعهم حينها، عندما حدثت مشاكل ناجمة عن عدم احترام بعض موظفي الدولة للعرب وعدم تأدية الخدمات لهم أُعيد عرض طلب دمجهم مرة أخرى فكان قرارهم هو تعليم أفراد من القبائل ودمجهم في الوظائف المدنية في حدود الحاجة لإنهاء خدماتهم الحكومية فقط، وهو ما حدث فعلا فكان في المؤسسات الحكومية بعض الموظفين الرسميين في الدولة من القبائل العربية يعملون على إنهاء خدمات ذويهم دون انخراط القبيلة بأكملها في الحياة المدنية. نفس هذا الأمر ستجده متكررا مع حكومات عدة ولكن بأشكال أخرى…
العامل الفكري
في معظم الأحيان، تنطلق القرارات السياسية من الحالة الفكرية للحاكم وصراعه الفكري مع الخصم، وكما أسلفنا فإنه كلما كانت الأسرة مترابطة الأركان كلما كان عصيا على الخصم أن يغير فكرها لمناعتها الاجتماعية، ومن هذا المنطلق رأى ساسة الغرب وباقي المستفيدين معهم -مثل حيتان الرأسمالية وغيلان الإباحية وغيرهما- أنه لا مناص من تفكيك الأسرة المسلمة التي ما زالت عصية عليهم مقارنة بتلك الغربية التي أتموا المهمة معها بنجاح، فراحوا يستغلون جميع منابع نفوذهم الاقتصادية كالديون والتهديدات لعسكرية والصناعية وغيرها لإجبار الدول العربية والإسلامية على الرضوخ لاتفاقيات تنص على سن قوانين وتشريعات تدمر الأسرة مثل اتفاقية سيداو CEDAW وهي اختصارُ «اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة»، وهي اتفاقية كارثية وقّعت عليها معظم الدول العربية والإسلامية للأسف وسنستعرض بعض بنودها في عجالة لنوضح كيف يتم التلاعب بالتشريعات لـ تفكيك الأسرة، على سبيل المثال تنص الاتفاقية في مادتها الخامسة على أنه «تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة، لتعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على فكرة دونية أو تفوُّق أحد الجنسين، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة » ففي تلك المادة بشكل صريح تمييع أدوار الرجل والمرأة في المجتمع وذلك سينتج عنه المشاكل الأسرية التي ستساعد على تفكك الأسرة لا محالة لأنه سيخلق صراعا بين الرجل والمرأة على الأدوار الأولى لكل واحد منهما.
ننتقل إلى المادة العاشرة من الاتفاقية التي تستكمل موضوع تمييع الأدوار والتي تنص على «القضاء على أي مفهوم نمطي عن دور الرجل ودور المرأة على جميع مستويات التعليم وفي جميع أشكاله عن طريق تشجيع التعليم المختلط وغيره من أنواع التعليم التي تساعد في تحقيق هذا الهدف، ولا سيما عن طريق تنقيح كتب الدراسة والبرامج المدرسية وتكييف أساليب التعليم» بهذا قد سببوا المشاكل الأسرية، لكن ماذا بعد؟
صحيح كما توقعت عزيزي القارئ فالخطوة التالية هي الطلاق، تخيل أن المرأة لديها الحق في الطلاق مثل الرجل فلربما تجد امرأة طلقت زوجها لأنه نسي إلقاء القمامة عند خروجه للعمل! فالمرأة كائن عاطفي تنقاد للعاطفة أكثر من العقل والحكمة؛ لذلك المادة 16 التي نصت على «تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات الأسرية، وبوجه خاص تضمن، على أساس تساوي الرجل والمرأة نفس الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج وعند فسخه» هي مادة كارثية كباقي مواد الاتفاقية التي لا سبيل لنا الآن لبيان طوامها جميعا ولكن هي في مجملها اتفاقية لزرع النسوية في بلادنا، وكما هو معلوم، هناك عداء بين الفكر النسوي وبين مفهوم الأسرة حتى قالت سيمون دي فوار (إحدى أهم رموز النسوية): «ستظل المرأة مستعبدة حتى يتم القضاء على خرافة الأسرة وخرافة الأمومة والغريزة الأبوية».
الحرب على الفطرة
«الغرب في حاجة لإعادتهم من حياض البهائم إلى حياض البشر ثم بعد ذلك يأتي خطاب الإسلام» هكذا أعلنها الشيخ الطريفي -فك الله أسره- مدوية، وقد صدق فيما قاله فالناظر لحال الغرب اليوم يجد الحرب على الفطرة بنشر الشذوذ على قدم وساق؛ حيث أسرة مشوهة مكونة من رجل ورجل أو امرأة وامرأة، أو إن شئت فقل لا أسرة من الأساس، وكما هو ديدن الطابور الخامس (العلمانيون) في بلادنا يستوردون من الغرب كل أمر فاسد فتجدهم يروجون لتلك الأفكار الشاذة لإنهاء ما تبقى من الترابط الأسري في المجتمع وبما يخدم تجار الإباحية الذين يرون إباحية الشواذ سلعة لها زبائنها ولأن تدمير الأسرة يجلب أطفالا صغارا كفريسة سهلة يمكن استغلالها في تجارة الإباحية المربحة. وفي النهاية لا يسعنا إلا أن نقول:
«ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين».