مقاصد الإسلام وتطور الصناعات

بقلم: الدكتور حسان عبد الله حسان

أسهم الإسلام بشكل بارز في تطوير الصناعات، من خلال مقاصده الأساسية، التي أوجبت مبدأ الحرية الإنسانية؛ حرية الجسد، وحرية التفكير الخلاق، وحرية العمل، وحرية الاختيار المهني، وكذلك من خلال مقصدية العدل التي تقوم على ضرورة توظيف القدرات الإنسانية لما يعود بالنفع الذاتي والمجتمعي والإنساني، بالإضافة إلى العمران والنفع واكتشاف السنن وما إلى ذلك مما حفز به الإسلام العقل الإنساني إلى الإبداع والتطوير.

مقصد الحرية

إن مهارات الإنسان لا يمكنها أن تنمو في ظل الاستعباد، ولا يمكن إيجاد تفكير خلاق، ولا أي تطوير للحركة الحضارية المهنية في ظل قيد «الاستعباد الإنساني»، إذ كيف يبدع الإنسان وهو مقيد في حريته الجسدية، والفكرية والشعورية؟

إن فعل الإبداع والتطوير فعل يقوم على حرية اليد العاملة، والعقل المفكر الذي يوجه تلك الأيدي العاملة نحو ابتكار الصناعات والمهن وتطويرها.

إن المهارات الحضارية للأمم والشعوب لا تنمو في ظل الاستعباد القسري للإنسان، سواء من الآلة المحركة (التكنولوجيا) أم من الإنسان للإنسان (بمعنى الاستعباد/ الاستبداد الاقتصادي أو السياسي)؛ فالمهارات الحضارية –إنشاءً أو تطويراً- تحتاج إلى عقل حر يبدع في استيعابها وتطويرها وتحسين أدواتها وتحقيق الملاءمة مع الظروف والسياقات المحيطة، وهذا يعني أن يشعر الإنسان -صاحب هذا الإبداع والتطوير- دائماً بالقيمة والكرامة والتقدير اللازم لمكانته في حركة تاريخ المجتمع، وقد تأسست المهارات الحضارية والصناعية بصفة خاصة بصورة واسعة في ظل الشعور بالحرية، كما يشير التاريخ الإسلامي والمؤرخون.

يذكر «كراوثر»، في كتابه «قصة العلم»: «.. إن حالة الاستعباد التي عرفتها الحضارات القديمة للبشر، وأوروبا حتى بدايات عصر النهضة لم تساعد على تطوير الحرف والمهارات اليدوية للشعوب؛ حيث كان التصنيف الطبقي يجعل العبيد هم من يتولون هذه المهام اليدوية تحت ضغط الأسر والعبودية من الأسياد والإقطاعيين.. إن العمالة السهلة والرخيصة التي أتاحها نظام العبودية استبعدت أي حافز للابتكار أو التطوير».  

ومن ثم كان لظهور الإسلام وبروز فكرة الانعتاق (فك رقبة) وتحرير الإنسان من العبودية والاسترقاق دور كبير في تحقيق تطوير الصناعات والحرف والمهارات، يضيف «كراوثر»، في كتابه «قصة العلم»: «.. في ظل هذا المناخ الهمجي المتخلف (أي نظام العبودية والإقطاع في أوروبا) نشأ نظام اجتماعي في مدن ثقافية إسلامية عريقة كقرطبة وبغداد، يقوم على أكتاف العمال المهرة والحرفيين المتخصصين والفنانين المبدعين، وأصبحت أسماؤهم جزءاً من تاريخ تلك المهن والصناعات، مؤكدة أنهم لم يعودوا عبيداً مجهلين.

ومن هنا يمكن القول: إن العنصر الحيوي الذي أضيف إلى العلم القديم، الذي أصبح العلم الحديث بمقتضاه ممكناً، هو التحرير الاجتماعي للحرفيين والفنانين خلال عصور الظلام والإقطاع، وهكذا عندما يكتسب العمل اليدوي وضعاً مستقلاً ومحترماً يصبح للعمليات التجريبية وزنها وأهميتها التي ينبغي أن تكون لها في أي تصور متوازن للمعرفة العلمية، أي المعرفة التي تقوم على الارتباط بين النظرية (الفرض) والتجربة».

كان لارتباط مقصد الحرية بالكرامة الإنسانية في الإسلام أثر بارز في دفع التفكير الإنساني الخلاق إلى الابتكار لبعض الممارسات التي كان يقوم بها العبيد في المنظومات الاجتماعية قبل الإسلام، لا سيما فيما يتعلق باستخدام القوة والطاقة.

إن العامل الحاسم وراء تقدم علم الميكانيكا هو التوسع في الزراعة وزيادة السكان والتوسع في حركة البناء العمراني في أوروبا ما بين القرن العاشر والثاني عشر الميلادي (عصر الازدهار الإسلامي)، وارتبط ذلك بازدياد الاستفادة من القوى الميكانيكية عن طريق تطوير عُدة الخيول وأسراجها، وكذلك تطوير طواحين الهواء والطنابير والسواقي المائية؛ فقد كانت تلك هي الطريقة الوحيدة لمواجهة شدة الطلب على الطاقة الحركية في غياب نظام العبودية القديم.

مقصد العدالة

يعني مقصد العدالة ضمن ما يعني في منظومة القيم الإسلامية، أن يجد كل فرد أوجه الرعاية اللازمة من المنظومة الاجتماعية من أجل توظيف قدراته وتنميتها على أفضل ما يكون، وهذا جوهر فكرة العدالة التي ترادف «الحق»، والحقوق في الشريعة تقسم إلى نوعين؛ حق لله، وحق للإنسان، ومن حق الإنسان تنمية قابلياته في ظل منظومة اجتماعية راعية ومؤطرة لتلك القابليات من خلال ممارسات التعليم والتعلم والعمل.

إن العدالة الاجتماعية –وفقاً لمقاربة «أمارتياسن»- تعني أولاً: تنمية قدرات الإنسان الفرد ليقوم بالعمل الذي يفضله وينجز الفعل الوظيفي الاجتماعي لتنفيذ تفضيلاته، وثانياً: توفير الشروط الاجتماعية والسياقات السياسية والاقتصادية الملائمة التي يمكن من خلالها الفرد أن يحقق إمكاناته وقدراته، ومن ثم ممارسته لحريته الإنسانية في الاختيار وتحقيق الذات والمشاركة أو الفاعلية الاجتماعية والمعرفية.

هذا المعنى لتهيئة المناخ العام للإبداع العلمي والتطبيقي يتوافق مع تعريف الحضارة لدى مالك بن نبي (1905 – 1973م) الذي يرى أن «الحضارة من الناحية الوظيفية: مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه»، فالحضارة إذن تحدث عند توافق ثلاثة محاور: الطاقة الحيوية للفرد، والأنشطة التي يقوم بها، والرغبات المحققة، مع المثل الأعلى للمجتمع. 

ومن ثم فالحضارة جملة العوامل المعنوية والمادية اللازمة لتنمية الفرد، التي قد تتموضع في شكل سياسة، أو في صورة تشريع يمثلان إسقاطاً مباشراً لعالم الأفكار على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي.

وعلى هذا جاء العقل الإسلامي بالمنهج التجريبي، والانحياز لأدوات الاستقراء والتجربة في بناء الحضارة الإسلامية، على خلاف الحضارة اليونانية، التي جاءت بالعقل الفلسفي والمنطق الصوري؛ فكان الإسلام أكثر واقعية وتجريبية.

قدم المجتمع الإسلامي لأعضائه من المسلمين وغيرهم مناخاً مهيأ لبروز الصناعات وتطوير الآلات المختلفة، ومن ذلك صناعات الري والمياه، يذكر «دونالد ر. هيل»، عن كتاب الجزري في الآلات (596/ 1206م)، أن «معظم الآلات التي وصفها الجزري ساعات مائية وأنواعاً مختلفة من الآلات الأتوماتيكية ذاتية الحركة»، ويضيف أنه «من الواضح أنه كان هناك طلب من أساتذة الجزري لعمل آلات من أجل الترفيه والسعادة الجمالية، لكن من المفضل أيضاً بدرجة عالية أن تتضمن مسؤولياته تصميم وبناء أعمال عامة، وانطلاقاً من هذه الاستطاعة، فإنه عرف قيمة الحاجة إلى تطوير كفاءة طرق رفع المياه، وحاول استنباط وسائل لهذه الغاية».

الكشف عن العلاقة بين المقاصد وتطوير الصناعات

إن الباحث الحضاري يمكنه أن يقف بسهولة على اكتشاف العلاقة بين مقاصد الإسلام العامة والخاصة والجزئية، وتطوير الصناعات والمهن المختلفة، ومن ذلك على سبيل المثال:

– مقصد المصلحة الإنسانية: وعلاقته بالنفع العام أدى إلى تطوير صناعات طواحين الماء والهواء والجسور والسدود.

– مقصد الوقوف على التوقيتات الإسلامية: تطوير واختراع صناعات الساعات وأدوات المراصد والآلات المستخدمة، وآلات تحديد مواقع القمر والشمس والكواكب دون حساب.

– مقصد العمران والتشييد: تطوير صناعة حسابات ومقاييس البناء وأدواته وآلاته، وصناعة الزخرفة والتزيين والبناء.

– مقصد اكتشاف الطبيعة: تطوير نشاطات التعدين والمناجم، وابتكار أدوات وتقنيات البحث والاكتشاف في باطن الأرض وظاهرها.

– مقصد المحافظة على البيئة: تطوير هندسة البناء الإسلامي والمهن المرتبطة بالعمارة الإسلامية، والمدينة الإسلامية.

الأبعاد المعنوية لحركة الصناعة

إن أي مشروع نهضوي في العالم الإسلامي لا يمكنه أن يكون دون أبعاد معنوية إيمانية حتى يستطيع التجاوز والإبداع الخلاق، فالشخصية المسلمة ذات النزعة الإيمانية يمكنها أن تحقق المعادلة الصعبة بالاستيعاب والتجاوز من خلال هذه الدافعية.

إن أعظم كتابات الصناعة على الإطلاق التي كتبها الجزري كانت تحمل هذه المعنوية الإيمانية؛ فحمل هذا الكتاب الصناعي الميكانيكي عنوان «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل»، فمفهوم العلم الإسلامي يتعلق دائماً بقيمة معنوية هي حرص المسلم الإيماني على النفع الإنساني كمقصد رئيس من إخراج الأمة للناس؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110)، فالنفع الإنساني الذي قدمه المسلم للبشرية طوال عشرة قرون وأسست عليه نهضتها الحديثة جذوته هذه الطاقة الإيمانية المعنوية، التي إن تعُد تعُد معها مظاهر هذا النفع.

Contact Us

Subscribe to our Newsletter

@2023 – All Right Reserved. Designed and Developed by AATWorld

About Us

Here in the AAT Group, Traders, Businessmen, Manufacturers, Importers, and Exporters get to know each other and cooperate despite the distances, countries, and different languages.

Feature Posts

Newsletters

Never Miss an Offer

Join our mailing list to receive the latest product news and industry updates from AAT World.

@2023 – All Right Reserved. Designed and Developed by AATWorld